معرض الكتاب
نشـارك فـي معـارض دول عـدّة ولـكـن مـا يخصُّ الرياض كان شيئاً مختلفـاً ، فـفي الـريـاض أعـداد الـزوار هائلة حتى أنَّهم يضطرون للوقوف على الـدور لأجـل شـراء كتـاب ، هـذا مـا قـالـه قـريبي – صاحب دار النشر- عنها حين كنت أنوي السفر إلى المـملكـة وكـانـت تلـك البلـد غـامضـةً تمـامـاً.. ـ
كلمات أعجبتني وإن أثارت استغرابي ، وبعثت الطمأنينة في قـلـبـي ؛ أنا المـولـعـة بـالـكـتب وأقيس حـضـارة أمة بمقدار ما تقرأ.. ـ
ومع هـذا تـوقـعـت وجـود بعـض المبـالغـة فـي حـديثـه ، فـالصـورة المطـبـوعـة فـي ذاكـرتـي عـن المـملـكـة أنَّهـا بلـد عـاليـة الأسوار نساؤها يلتحفن السواد ورجالها فاحشي الثراء أبعد ما يكونوا عن الثـقـافــة ، حتى زرتها و دهشت مما رأيت !.. ـ
الرياض مدينة متسعة الأطراف حتى ليمطر مشـرقهـا دون مغـربها ، وقـد يـلـزمـك قـرابـة ساعتين لـتـقطـعهـا من جهة لأخرى، قد تبدو باهتة في بعض المواضع نهـاراً ، فـإذا أمسـى الليـل اشـتعلـت بـالـنـــور ولم تعد تميز هل انبثق الضوء من العدم أم أنَّها كتلة نور تشـرق في عـتمـة الصـحـراء ، شـتـاؤهــا قد يضمخ بالغبار لكنَّه يكفي ليغسل البيوت كما القلوب
بمحـاذاة الخير العامـر فـي تـلـك الـديـار والـذي تـلمسـه مـن أهـلهـا ومـن كـلِّ المحـافـل – أيّـاً كـان مـجـالــهــا- والتي ترفل بكلِّ أنواع الضيافة، تلك التي لا تنمُّ عن سعة فقط وإنَّما عن كرم أصيل.. ـ
لطالما جارى الخير الثـراء وهذا عادي ، ولكنَّ غير العادي أن تجد النشاطات الثقافية منتشرة بهذه الكـثــافـة، فــأنّـى اتـجـهــت تـرى مـيــاديــن وصــروح الـثـقــافــة حــاضــرة بـجـلالهـا وجمـالهـا وغــنـاهــا بـما تحوي ، بدءاً مـن مـراكـز مـن مـخـتـلـف المسـتويـات مـروراً بـالجـامـعـات حـتـى مــركــــز الملك فيصل الذي قد يرقى ليكون أحد أعظم مراكز الثقافة في هذا العصر . ـ
دورات تعـليمـيـة ومعـارض فنية ونشاطات متنوعة متاحة بالمجان لكل راغب حتى أنَّك تحتار فيمَ تـــشـــــارك ، لـقـد تعـرَّفت هنـاك عـلـى أشـخاص رفيعي الثقافة كما لم أصادف من قبل ،أو لنـقـل أنَّه كـــان في مكان غير متوقع ، فقد كنت أظنّهم لا يهتمون إلا بصناعة المال ، بينما كان للواقع رأي آخر
فوراء مـلاءات نسائها السوداء عشرات الحكـايـات عـن نساء عظيمات بقلوبهن الوضاءة وعقولهن الصـافيـة ، تجاوزن السور ، وصنعن أنفسهن رغـم كـلِّ القيـود ، وعلـيـك أن تصغي لرجالها يلقون الـتـحـيـة فتسمع أعذب الكلام – كأنَّه خارجٌ لتوّه من حكاية قديمة مازالت تغصُّ بالألق والرقة وبديع الصـياغة والمعنى- تتساءل من أين لكلماتهم هذه النضارة في هذا المحيط الجديب ،هناك حيث تنتزع منك الابتسـامة مـرة ومرة، لكأنهم يردّون على قسوة اللهيب والجفاف برذاذ المحبة وفيء اللطف والرقي ـ
حيـن أتـى مـوعـد الـمعـرض السـنـوي للكــتـاب قصـدنـاه بمحض الفضول على الأقل فلازال وصف صديقي يرنُّ في أذني ،لذلك اخترنا الذهاب في فترة ما بـعـد الظـهـر تجنباً للازدحام ، ولكن هيهات ، فـرغـم وجود السّاحة الضخمة المحيطة بالمـعـرض لم نجد زاويـة صـغيـرة لـركـن السـيـارة ولا فـي الشـوارع القريبة ، فبقينا قرابة ساعة نلفُّ حول المنطقة بحثاً عن بقعة فارغة تسمح لنا بالوصول إلى وجهتنا، و أخيـراً اسـتطعنا الـركـن فـي شـارع مـا ، وتحرَّرنا من المركبة ومشينا إلى المعرض الذي أصـبـح بعيداً الآن، وحيـن دخلنـا مـن المـدخـل الضـخـم وجـدنـا العـدد الهائل من الزوار ، هنا يتدافع الـنــاس على الأجنحة الـتـي لا تـعـدُّ ، كـأنَّهم يسعون إلى كنز مخبوء يخشون سرقته ، وبين الممرات الطويلة يبحثون كمن يعرف ما يريد، وتراهم يقتنون الكتب بالجملة باهتمام قد لا تصادفه في مكان آخر.ـ
لا يتعلق الأمر بضخامة المعرض ، أو كثرة سكان الرياض ، أو تنوع انتماءات سكانها ، أو النشاطات المرافقـة والضـيافـة المـميـزة ، ربـمـا لكـلِّ ذلك دور بسيط ولكنَّ الدور الأساسي وجود نسبة كبيرة من السعوديين قرّاء ؛ قراء أصيلون إذ يحرصون أيضاً عـلى شراء النسخ الورقية ولا يكتفون – كما يحدث أحيانا كثيرة – بتناقل ملفات ال ( بي دي أف ) بتجاهل تام لما للكتّاب من حقوق ..
ـ
للخضـرة أيـضـاً حيِّـزٌ لا يُسـتهـان بـه ، وربـما لخوفهم من الجفاف تجدهم يبالغون بالعناية حتى تذهلك نباتات ريّانة تطل في كلّ زاوية وتتساءل ” هل هـذه مـنطقـة صـحـراء حقـاً أم واحات مزدهرة يجذبك جمالها رغماً عنك ؟..” ـ
سنين مرّت منذ غادرت الرياض وزرت دولاً أخرى جميلة وسخيّة على درجات، ولكن ذكراها لازالت هي الأجمل ، فإذا سُئِلت عنها قلت تلك بلد خير ، ولو تعلمون ذلك الطيب المنبعث من بلاد الخير .
آمال عبد الصمد – سوريا
Comments
Loading…