in

الشخصية الحدية

اليوم وأكثر من أي وقتٍ مضى غدتْ الحاجة ملحَّةً للتعامل مع الاضطرابات النفسية التي تعصف بمجتمع ما بعد الحداثة والمجتمع الليبرالي بشكل حاسم وسريع سواء التعريف بها أو محاولة توعية الأشخاص للقضايا التي تلامس حياتهم اليومية المباشرة. قد ينطبق علينا للوهلة الأولى ما نقرأ عن اضطرابات الشخصية عموماً واضطرابات الشخصية الحدَِية خصوصاً ، وما اختياري لهذا الموضوع إلا انطلاقاً من ملامسته للواقع المعاش اليومي ، ورؤيته لدى أغلب الذين نتعامل معهم . فما هو اضطراب الشخصية الحدية ؟ ما أسبابه؟ وكيف تتم معالجته؟

اضطراب الشخصية الحدية: حصل المرض على هذه التسمية في تقرير كتبه أدولف شتيرن ، متخصص التحليل النفسي الأميركي سنة 1938،قال فيه بأنّ مجموعةً من مرضاه يعانون من شكل خفيف من الفصام، فتصوّر أنهم على “الحدّ” الفاصل بين العصاب والذهان ، ومن هنا نشأ الاصطلاح : اضطراب الشخصية الحدّية ، أو الشخصية الاندفاعية المزاجية، أو الشخصية غير المستقرة عاطفياً .

(BPD) Borderline personality disorder

، يعرف بخلل في توازن العواطف والانفعالات ، فيتميز المصاب بالاندفاعية وتقلب المزاج وعدم الاستقرار في السلوك والعلاقات الاجتماعية وفي الشخصية وصورة الذات ، ويشير مصطلح (الحدية) إلى حقيقة أنّ الأشخاص الذين يعانون من هذه الحالة يميلون إلى “الحدود” في حياتهم، سواء في علاقتهم بالآخرين أو في التفكير والعمليات العقلية التي تجرى بداخلهم . علماً أن شتيرن الذي سوَّق المصطلح سوقه كمرض يشكل حداً بين العصاب والذهان. ويكون هذا الاضطراب غالباً في مراحل المراهقة، ويمكن أن يظهر بشكل عرضي حسب الموقف، ويتميز بتقلبات مزاجية عنيفة تستمر عدة ساعات أو عدة أيام، تتمثل بسعادة غامرة أو ضيق وقلق، كما تحدث نوبات شديدة من الغضب والتهيج وفقدان الأعصاب وما ينتج عنه من تصرفات غير لائقة، الأمر الذي يكون من الصعب فهمه بالنسبة للآخرين، إذ إنّ الشخصية الحديَّة من أكثر الشخصيات الحساسة التي تتأثر سريعاً، ومشاعر المصاب تتطور سريعاً، فهو يغضب بسرعة، ويعبر عن هذا الغضب، لكنه لا يؤذي أحداً ، ما عدا نفسه.
 يُساء فهم اضطراب الشخصية الحديّة، فيظن البعض أن المصاب به هو شخص لا يمتلك القبول أو شخص “صعب”، لكنه فقط شخص يجاهد للإبقاء على علاقاته، إلا أنه لا يمتلك القدرة على التعامل بشكل متدرج بين الأبيض والأسود كما يفعل شخص عادي متوسط ، هناك دائما تلك القاعدة في التعامل التي يمكن أن تتغير مع التدريب والعلاج، وهي “كل شيء أو لا شيء”. بل وتمتد تلك الحالة من التوتر وعدم استقرار المشاعر لتتجذّر في هوية الشخص ذاته. ستجده يتساءل بشكل دائم عن هويته، من أنا ؟ ما طبيعتي ؟ هل أرتدي هذا أم هذا ؟ هل أصبغ شعري بالأزرق أم البرتقالي ؟ ما الذي يُعبِّر عنّي ؟ ومع هذا التوتر المحموم نجد أن المصابين بهذا الاضطراب قد يبدّلون بشكل مستمر من طبيعة ملبسهم ومظهرهم واختياراتهم لأساليب الحياة في العموم، بل قد يحاول بعضهم تغيير اسمه، أو قد يتبع طريقة شخص آخر في الحياة، ويبدل أهدافه من وقت لآخر.

أرقام مهمة :

يحدث اضطراب الشخصية الحَدِّيَّة في نَحو 2 إلى 5٪ من الشرائح البشرية . وهو يحدث بالتساوي بين الرجال والنساء، على الرغم من أن النساء أكثر ميلاً للمُعالَجة. يكُون لدى مرضى هذا الاضطراب تغيرات دراماتيكية في علاقاتهم بين الأشخاص، وصور الذات، وحالاتهم المزاجية، وسلوكهم. عادة ما يُصبح اضطراب الشخصية الحَدِّيَّة واضحاً في مرحلة المراهقة أو الشباب ويصبح أقل شيوعًا مع التقدم في السن ، يزُول اضطراب الشخصية الحديّـة عنـد نَحو 50٪ من المرضى في غضون عامين وعند نحو 85٪ خلال 10 سنوات. وبمُجرَّد أن يزول، فهو لا يحدث من جديد عادةً . ولكن ، على الرغم من أن الأَعرَاض تقل بشكل كبير عادةً، إلا أن العلاقات بين الأشخاص والأدوار الوظيفية لا تتحسن تقريباً مثلما هُو متوقَّع ؛ فعلى سبيل اﻟﻤﺜﺎل ، ﺑﻌﺪ ﻋﺸﺮ ﺳﻨﻮات ، يكون عند نَحو 20٪ ﻓﻘﻂ من المرضى ﻋﻼﻗﺎت ﻣﺴﺘﻘﺮة أو وظائف ﺑﺪوام كامل. يُفيدُ مرضى اضطراب الشخصية الحَدِّيَّة غالباً عن كونهم تعرضوا إلى الإهمال أو إساءة المعاملة في الطفولة، وبالتالي، فإنهم يشعرون بالفراغ والغضب ، ويحاولون التعويض عن الرعاية المفقودة في أثناء الطفولة من خلال السعي للحصول على الرعاية في العلاقات. وبذلك، قد تكون استجاباتهم دراماتيكية ومكثفة عندما يفعل شخصٌ آخر أو يقول أي شيء يوحي بقلَّة الرعاية. وعندما يشعرون بأنهم انتُقِدوا أو رُفِضوا من قبل شخص مهتم، فإن وجهة نظرهم حول هذا الشخص قد تتحول فجأة من المثالية إلى النقد الغاضب، وقد يقللون من شأن الشخص. وقد يعبرون عن غضب غير مناسب ومكثف. وفي بعض الأحيان، يحولون هذا الغضب ضد أنفسهم ويُسببون أذى لأنفسهم عن عمد، مثل جرح أو حرق النفس.

الأفكار أو المحاولات الانتحارية

تأتي – في حالة اضطراب الشخصية الحدية – في سياق عدم الاستقرار الداخلي والخارجي في المشاعر (Emotional dysregulation)

بمعنى أنه قد ييأس من فشله المتكرر في الحفاظ على العلاقات، أو قد تقول إحداهن لحبيبها الذي هجرها إنها رداً على ذلك ستقوم بإيذاء أو قتل نفسها، في تلك الحالة فإن الاندفاعية هي رد فعل على عَرَض آخر، والذي هو بدوره تمظهر واضح لتردد عواطف هذا الشخص بشكل مستمر. من جهة أخرى فإن هذا الاهتزاز وعدم الاستقرار لعواطف الشخصية الحديّـة يظهر مع عَرَض آخر غاية في القسوة، وهو إحساس الشخص المزمن بالفراغ، باللا شيء، و هذا قد يحدث ذلك من حين لآخر لأي شخص , ولكن رد الفعل للشخص الطبيعي، انه قد يأكل أو يخرج لرؤية الأصدقاء أو يفعل شيئاً ما يزيح الشعور، لكن بالنسبة للمصاب باضطراب الشخصية الحدية فإنَّه ما من شيء سيملأ هذا الفراغ أبداً. في الواقع قد يكون ذلك هو ما يُوجِّه المصابين بهذا الاضطراب لأفعال اندفاعية بطبعها، ويستمر ذلك في التكرار لأنه لا شيء يسد الفجوة ، بل هي أشبه ما تكون بثقب أسود في الروح يستمر في سحب كل شيء إليه، ولا يشبع أبداً.

: العلاج والدعم

  • العلاج النفسي

توصي جمعية الطب النفسي الأمريكية بالعلاج النفسي الديناميكي طويل الأمد أو العلاج السلوكي الجدلي . في النهج النفسيّ الديناميكي، يحاول المعالج ربط المشاعر والأفكار والأغراض الحالية بالمعاني اللاواعية المستمدة من تجارب الحياة المبكرة (على سبيل المثال: الاعتداء الجنسي على الأطفال ). من خلال ربط الحاضر بالماضي، يتم توجيه مرضى اضطراب الشخصية الحديّة إلى فهم جديد يسمح لهم بتغيير سلوكهم

  • العلاج السلوكي العلاجي

العلاج السلوكي الجدلي (DBT)

 هو علاج نفسي اجتماعي تم تطويره خصيصًا لاضطراب الشخصية الحدّية . و هذا العلاج يحتوي عادةً على مكونات علاج فردية وجماعية . ففي جلسات العلاج الفردية ، يطور المعالج بيئة يتم فيها الاعتراف بمشاعر المريض على أنها مشروعة ومقبولة ، إلى جانب الإصرار على الحاجة إلى التغيير. أمّا في الجلسات الجماعية ، يعمل المريض على مهارات تكيّف محددة مقسمة إلى أربع وحدات : الذهن الأساسي (إدراك ما يجري داخل الذات) ، والفعالية الشخصية ، وتحمل الضائقة ، وتنظيم العاطفة.

  • العلاج الطبيعي

تم العثور على الأدوية لتكون فعالة بشكل معتدل فقط في علاج أعراضه،توصف مثبطات امتصاص السيروتونين الانتقائية بشكل شائع للمساعدة في السيطرة على أعراض الاكتئاب . ويمكن استخدام مثبتات المزاج مثل الليثيوم أو بعض مضادات الاختلاج للمساعدة في السيطرة على الاندفاع والغضب المتفجر. يمكن أيضاً استخدام الأدوية المضادة للذهان (مضادات الذهان) عندما يظهر الفرد تشوهات في التفكير أو أعراض ذهانية.

لا بدّ لنا من محاولة فهم أنفسنا في سبيل فهم المشاكل التي تواجه حياتنا، لدينا كثير من الصعاب في يومياتنا يمكن الانتصار عليها بالمعرفة العامة وخصوصاً المعرفة النفسية التي تعطينا الأدوات والقدرات لعدم وقوعنا كفريسة مجانية للمشاكل والأزمات النفسية.

يارا هنيدي

Written by فضاءات

What do you think?

Comments

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Loading…

0

تأسيس جمعية للفنانين السعوديين

من هو الشاعر