in

معـرّي اليمـن ” من العمى إلى البصيرة “

شعرية الصورة لدى عبـد الله البَـرَدُّونـي

ونحـن نقـرأ المُقسَّمات الشعرية، لا بدَّ أن نتذكر أنَّ شاعرها كـان فـاقد البصر؛ لا لشيء إلا لنعرف أنَّ الأشياء التي نراها لا نـألفهـا كمـا يبتغـي المعنـى السـليـم مـن سـكرة الأُلْف، وأنَّ الأشياء التي نألفها لا نعرف عنها مقدار رشفةٍ من كأس (عَرَفَ) . ـ

ــ يقـول عـن نفسه : ” كنت شقيَّاً بثلاثة أشياء : بالعمى نفسه، وبإنكاري للعمى، ولمّا اعترفت بالعمى.. وقد كان الحادث مأتماً صاخباً في بيوت الأسرة، لأنَّ ريفه يعتدُّ بالرجل السليم من العاهات، فرجاله رجال نزاعٍ وخصامٍ فيما بينهم؛ فكل قبيلة محتاجة إلى رجل القراع والصراع الذي يقود الغارة ويصدُّ المغيرَ”. لكنَّ شاعرنا، خُلق ليدلل اللفظ من الفظّ ، ويعلل ليل المعنى العليل، على مذهب سلفه [مجنون ليلى] القائل :ـ


ألست وعدتني يا قلبُ أنّي إذا ما تُبتُ عن ليلى تتوبُ
فهـا أنا تائبٌ عن حُبِّ ليلى فما لك كلما ذُكِرتْ تذوبُ

هـذا الشاعر الكفيف ، راح يعاين الحيـاة بـ ” عيـن الحيـاة ” ذاتـهـا ، فتـحـولـت الصـور وتعيَّـنـت في قــلـبــه أيَّـمـا تـعـيُّـنٍ، ومـن روح البصـيـرة هـذا الشعر المُنَغَّمُ، وهذا النَّغَمُ ، يصوّر الأشياء في أنساق اللَّحن، ومن أنسام العطر : ـ
من أرض بلْقيسَ هذا اللَّحنُ والوترُ من جوِّها هذه الأنسام والسّحَرُ
من “السعيدة” هذي الأغنياتُ ومن ظـلالهـا هذه الأطيافُ والصَورُ
هذا القصيدُ أغانيها ودمعتُها وسِـحْـرُهـا وصِـبـاهـا الأغـيـد النَّـضِـرُ
يـا أمـيَ اليمنَ الخضـرا وفاتنتي منكِ الفتونُ ومنّي العشقُ والسهرُ
وأنت في حُضـن هـذا الشِّـعـر فـاتنـةٌ تُطِـلُّ مـنـه، وحـيناً فيه تستتِرُ

وقد بلغت حكمته مداها، وهناك راح يشدو ثم يشجو ثم يسجو سجاياه : ـ
يا رفيقي هاتِ أذنيـك .. وخـذ أشـهى رنيني
من شفاه الفجر أسقيـ ..ـك وخمـرِ الياسمين
من معين الفـن أرويــ ..ـك ولم ينضب أنيني
لك من أنَّـاتـيَ اللـحـنُ.. ولي وحـدي أنـينـي

وبين لهج النار ولعج القلب.. كان : ـ
كـلّ حـرفٍ مـن لفــظِـكِ الحلـو فـردوسٌ وسـلسبيل مُـسَـلـسَـل
كلما قلت رفّ مـن فـمِـكِ الفجر وغنّى الربيع بالعطـر واخضلّ
كلما استنطقتْ معانيك شـعـري أرعـدَ القلـب بالنشـيـد وجلْجل
وانتزفتُ اللحونَ من غور أغواري كأنّي أذوبُ من كل مَفْصل
أنـت دنيـا الجمـال نَمْنَمَهـا السـحـر فأغـرى بها الجمال وأذهل

وكالهائم ، مضى : ـ
سـابـحٌ فـي هواكِ يهفـو كفكـر شاعرٍ يـرتـمـي وراء المعاني
ظامئٌ يشرب الحريـق المدمّى ويعـاني من الظـمـأ مـا يعـاني
ماذا تغني، مَنْ تناجي في الغنا ،ولمن تبوح بكامن الوجدان؟


وفي ليل بهيم ، صاغ قوافي الواقع نفْية مستمرة : ـ
يمنيـون فـي المنفـى.. ومنفيـون فـي اليمـن
فظيع جهل ما يجري.. وأفظع منه أن تدري

إنّه الشـاعـر [عبـد الله البَـرَدُّونـي ] المُكنّـى بـ “معـرّي اليمـن”، أسـوة بـأبـي العـلاء المعـري ، ولا أحــســب أنّ شـعـره ببعيـد عـن قـولـة [ الجاحظ ] : ” سـيـاسـة الـبـلاغـة أشــدُّ مـن البـلاغة ” . ـ

والحال ، أيُّ قـلـب لا يـمـتـلـئ بـالأنـيـن والـحـنـيـن إذا مـا وقـع صـاحـبـه عـلـى مـثـل هـذه الصّـوَر الـمُـصـوَّرة ، فـي بـيـان يـبيِّـن أنَّ شـاعـرهـا قـد أدرك الحساسـية الشـعـريـة قـبـل أن يـعـرف ما هو الشـعـر، فـأيّ شـاعر أعمى ، وقد أعمى شعره العيون؟


محي الدين ملك

Written by فضاءات

What do you think?

Comments

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Loading…

0

التاريخ والدراما / 8 / ملكتان و ثورتان

٣٦٠ يوماً