in ,

سلفادور دالي

” أنا لست سورياليّاً أنا السورياليّة “

دراسة للفنان البـاحـث [ أكرم حمزة ] ، حول لوحة في الخروج من البيضة أو ( الطفـل الجيوبوليتيكي )

يُعـرف عـن الفنان السوري أكرم حمزة، عمق رؤية للفن، تجربة نادرة في استخلاص خفايا ما تخبئه، وما تصرِّح بـه الخطـوط والتفـاصيـل فـي العمل الفني من خلال رؤية مختلفة .
ـ في التعـريف عـن اللـوحة : أولاً مـا هو متعارف عليه حول لوحة الفنان الاسباني [سلفادور دالي] الذي يدعي أنَّه ” السوريالي الكامل” في أحد كتبه المنشورة والتي يذكر فيه ” أنّ الفرق بينه وبين المجنون أنَّه ليـس مـجـنـونـاً ” .. رسـم دالـي هـذه الـلـوحـة عـام 1943 بـتـقـنـيـة الـزيـت عـلـى القماش ؛ أبعادها : 44.5 سـم × 52 سـم ، وعنـوانهـا أو اسمها ليس المتداول بل ( الطفل الجيوبوليتيك يراقب ولادة الرجل الجديد ) . وقد رسمها دالي أثناء إقامته في الولايات المتحدة من عام 1940 إلى عام 1948. إنَّها واحدة من أكثر لوحاته شهرة، تمثل رجلاً يخرج من بيضة بينما ينظر إليه شخص بالغ وطفل غامض يقفان في الجوار .. وضع دالي ملاحظات تبين بعضاً من دلالات العمل، إذ يكفي استعراض الإشارات المدونة كي يتـوضـح خـط القـراءة الأوليـة التـي أعتبرها مجرد مفتاح لـولوج عالمهـا ، ولا أعتقد بوجود تعقيد فيها . ـالملاحظات المختصرة التي قدمها دالي حول العمل : ( المظلة، الباراناسيس، الحماية، القبة ، المشيمة ، الكاثوليكية ، البيض ، التشوه الأرضي ، القطع الناقص البيولوجي ) . (الجغرافيا تغير جلدها في الإنبات التاريخي )، على عكس عمله في الثلاثينيات من القرن المنصرم ، ربما يكون من الأسهل فك رموز هذه اللوحة لأن في رمزيتهـا مـن القانـونيـة مـا يقلل من الغموض والتناقضات البصرية التي اتسمت بها فترة سـريـاليـته الفرويدية ، يشقّ الرجل “الجديد” طـريقـه للخـروج مـن البيضـة الكبيـرة التـي تمـثـل الـكـرة الأرضـية ، الشق في المنتصف ، تحصل الولادة في العالم “الجديد”، أي أنَّ القوة العالمية الجديدة تمثلها الولايـات المـتحـدة ، وهـي موطن دالي المؤقت في ذلك الوقت يمثل توسّع إفريقيا وأمريكا الجنوبية في اللوحة ، الأهمية المتزايدة للعـالم الثالث ، ويمثل القماش الرايات، المشيمة (مزيجاً غريباً من الزواحف، الطيور ،والثدييات).
شخص مخنث (أقرب إلى الأنثوي كهيكل وذكوري الملامح) يشير إلى “الرجل الجديد” الناشئ ، ويشير “الطفل الجيوبوليتيكي” المنكمش الى الفترة التاريخية الجديدة التي سيمثلها.

وهـذه التفسيرات منقولة عمَّا كتب عن اللوحة، وما اتفق عليه المحللون، بينما تتعارض النظرة حول اليد التي تتكئ على أوروبا أو تعصرها وفي الحالتين تكون أوروبا قيد الرحيل سواء بالاتكاء أو في التدمير ، من قبل الـرجل الجـديـد الخـارج مـن البيضـة ، ولـن ننسـى أهمية البيضة ورمزيتها في المسيحية عندما تحول لون البيض إلى الأحمر في يد المجدلية عند قيام المسيح .. مـن هـذه الرؤية نرى تلميحاً من دالي واضـحاً قرأته في ملامح اللوحة، وكأن دالي استقرأ منذ عقود ، ما وصلنا إليه مـن تـطـورات سـياسـيـة غيرت جغرافيا العالم !ـ

وللمـزيد مـن التـعـمـق فـي الـرؤى المتوارية واختلافاً عن السائد، بل غوصاً في طبقاته الأعمق و أكثر طمعاً في تماسكه، إنّي لأعتقد أنّ في ذلـك مـا يتطـابق مع رؤى دالي التي صرَّح بها في كتبه المنشورة محافظاً على توريتها ليبقي هذه الشعرة الفاصلة، فرقاً بينـه وبـيـن الجـنـون من جهة، وبينه وبين جنون العظمة خصوصاً من جهة أخرى.

التوثيق : ـ

[1] يوميات عبقري سلفادور دالي – ترجمة أحمد شاهين 1995 // [2] من العديد من المدونات // الحياة السرية سلفادور دالي – ترجمة متيم الضايع – دار الحوار سوريا 2016 // سلفادور دالي في سيرة تشبه لوحاته.. الثمرة الأكمل للبارانويا البشرية – مقال ل شوقي بزيع يستعرض به كتاب دالي السوريالية و أنا


لـقـد اخـتصـرنا فـي التدوين السابق، مستوجزين لما تعارف عليه النقد الأوروبي المتداول حول اللوحة ، تبقـى الـرؤيـة الأكـثـر صـوابـيـة فيما سندلي به مع قليل من التوسع أو الإيجاز أحياناً حول روافد اللوحة وأسـلوبيـتـهـا ومـوضوعهـا، مـسـتـشـهدين بما ورد في كتاب دالي المسمى (مذكرات مما يؤكد ما نذهب إلـيـه في التحليـل والإيضـاح) ــ فـالـرجـل المـولـود مـن البـيضـة التـي تتـخـذ شـكـلاً وجسـمـاً لدناً، على عكـس مـا هـو متعـارف علـيـه مـن قسـاوة قشـرتـهـا، هـذا الـرجـل يرمز إلى [سلفادور دالي] نفسه، وقد هاجـر من أوروبا التي رفضـته بعد أن طرده [أندريه بريتون] من المجـمـوعـة السـوريـاليـة ، عـلـمـاً أنّ زوجته غالا كانت قد حذّرته من التماهي مع السورياليين لأنّهم سيرفضونه ، لذلـك تـخـرج يـد دالـي أولاً لتقبض على تلاشي أوروبا التي لم تحقق له مبتغاه في العظمة التي يستحقها حسـب مـا يعتقـد ، لـم يخرج رأسه أولاً بل يده التي مسحت أوروبا، والرجل يمثـله فـي اكتـمـال الرجـولـة، وبـكـل حـركـتـه وفاعلـيتـه يـلاحظ أنّ لظلِّ الطفل حجماً أكبر وأكثر امتداداً من ظل المرأة المخنث

يـركـز دالـي علـى التماهي بين اصفرار اللون وتمازجه مع الشكل، مع الضوء، مزج اليابسة مع السماء لنعلم بعده في النهاية مـا أراد قـولـه ، اليـابسة التي تشكلت من كرة صفار البيض التي تشبه كرة الشمس شكلاً ولوناً ، تغطية الرأس لكي يظل دالي موارياً نفسه و مبقياً فعله كامناً.

ولـدينـا أيـضـاً فـي يـميـن العمـل شـخصـيتـان تتحـاوران ومـن المهم أنّ احداهما، وهي التي في المقدمة ترتدي زياً أحمر.. كلُّ ما في اللوحة سـاكـن، متـرقـب ، الفـعـل الحـركـي للـرجـل الخـارج مـن البيضـة ولادة؛ فهو الفاعل الوحيد، وكل ما حولـه يشـارك في طقوس ولادته الدامية، ويشير العنصران الآخران (المرأة المخنثة والطفل) إلى أنّ الحضارة الأوروبـيـة أحـالـت المرأة عموما إلى جنس مخنث يدفعها في دوامة آلياتها، وتشير الولادة إلى حالة الفعل الوحيد الذي تمكـن مـن القـيـام بـه، أي التـرقـب والاشـارة، ليـعبـر عـن الفـاعليـة الإنسـانيـة الأنضر لدى أشخاص لم تتكون لديهم المسـبقـات المعـرفيـة كمـا حـالـة المـخـنـث الذي يشاركه الطفل لون البشـرة الميتـة، على عكس لون الجسد النضر لدالي، الرجل الفاعل، الذي عاد إلى الولادة من جديد في القارة الأمريكية.
فعلـى اليمـيـن ــ أي يـميـن البـيضـة الأرض ــ هـنـاك البنـاء الأشـبه ببرج في خواء ، وللبرج وظيفتان: المراقبة، والهداية كما تفعل المنارة.. ــ وعلى يسار البيضة الأرض ــ شـخصـان يتبـادلان الأسرار، فإذا جـمعنـا الـولادة مـع البـرج تصـبـح المعـادلـة تـرقبـاً للولادة وإشارة إليها، وليس على الجانب الأيمن من الـبـيـضـة الأرض، الرحم سوى انتظار فعـل القيـامـة ولـيـس علـى الجـانـب الآخـر سـوى الابـتـهـال : ـ
قام المسيح .. حقاً قام

تـبـرز نـقـطـة منـســدلـة مـن إفـريـقـيـا ، بـيـضـاء حـلـيـبـيّـة ، و نـقـطـة دم ســال مـن الجـرح ، مـكـان الـخـروج .. كـمـا تـسـيـل أمـريـكـا اللاتـيـنـيـة بـلـون صـفـار البـيـض علـى القـمـاشـة الـبـيـضـاء

ــ اسـتـطـراد لا بـد مـنـه : أقتـطـع من مـقـالـة [شـوقـي بـزيع] ما دونه دالي في كتابه ( أنا والسوريالية )
ما يلخص أراءه في فناني وفن عصره، يوافق دالي ليوناردو دافنشي على أنّ البيضة هي أكمل الأشكال ، يـرى فـي فـن [بـول سيزان] الذي انتصر للمكعب والأسطوانة تعبيراً أمثل عن انحطاط فن التشكيل، ليس فقط لأنَّ تفاحات سيزان المصنوعة من الاسـمنـت تعكـس عجزه عن التقاط الحياة في نبضها الساخن، بل لأنَّه فتح الباب واسعاً على ما أسماه دالي (أخلاقيات الـروث) ، وتحويل الفن إلى شكل من أشكال الصرف الصحي. يرى دالي من جهة ثانية، أنّ زمن رسم الطحالـب والجمـاليـات البصـريـة الخارجية على طريقة ماتيـس ، لـم يـعـد لـه نـصـيـب مـن الاسـتـمـرار في عالم اليوم، وإذ يعتبر [ماكس أرنست] مجرد مصور إيضاحي جيد، فإنّه يرى في [جورج براك] رسـاماً منزلياً ومقلداً للرخام، آخذاً عليه قوله إنّه يحب القاعدة التي تكبح العاطفة، وذلك مت صححه [خوان كريـس] فـي ما بعد بقوله : “دعونا نحب العاطفة التي تكبح القاعدة“. في مقابل ذلك، ينحاز دالي لتجربة فيرمير الذي عرف كـيـف يـسـتـخـدم مـرآة بـصـريّـة تـعـكس شخوص لوحاته، ولتجربة فيلاسكيز الذي عكس الحقيقة الإنسانية بعفة كاملة، لكنَّه بوجه عـام، يـنحـاز إلى فنون عصر النهضة، حيث بلغ التعبير البصري ذروة كماله ، قبل أن ينحدر مع الفن الحديث نتيجة لتسطح الحياة وإفراغها من مضمونها الإيجابي.

ــ قـال دالـي فـي رده عـلـى سـؤال حـول طـبــــيعـة سوريالـيته : “ أنا لست سوريالياً ، أنا السوريالية “ـ

أذكـر قـولاً آخـر لـه ، يبين فيه ما آل إليه حاله ، و يختزل فيه الكثير من رؤيته لشخصه وفنه : “ أنا دالي الذي نبذني والـدي، وصـبـري يـضـطـلـع بـجـانب من الإسـطورة الكونية، تحت ظلِّ شجرة زيتون، وبين الصيادين، عشت آلامي كالمسيح، متـصوراً فـي نشـوتـي افـتراضي للشخص المزدوج أمي [غالا]، وقد اختزلت – مفتوح العينين – فكرة الخلود من المسيح إلى فيلاسكيز” ـ

إعداد : نهى عبد الصمد

Written by فضاءات

What do you think?

Comments

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Loading…

0
من حلمٍ إلى حلمٍ أطير، وليس لي هدف أخير

الأيقونة الشعرية “جدارية درويش”

عاشت الأخوة التونسية – السعودية