in

اللغة والهويّة

على سبيل التقديم : ـ
مرَّةً أخرى سنتلبّث فـي حقل العلوم الإنسانية، ليلاحظ المُتتبّع صعوبة اجتراح تعريف جامع مانع لها – مصطلحاً وماهيات – كما أسـلفنا غيـر مـرة، وذلـك على عكس العلوم الوضعية، التي تحتكم إلى ضبط صـارم يسـوسها في الموضوعات أو العلاقات أو في ضـبط المصـطلـح، فكيف إذا انتهى بنا المقام إلى تـلـمّــس العـلاقة بين موضوعين يتسمان بتجريد كبير كاللغة والهويّة، وذلك بما هـمـا حقـلان شــديـدا التمفصـل، بـل التـداخـل، إلاّ أنّنا – في المجتبى – مُكرهـون علـى مـا لـيـس منـه بـدّ، ذلك أنّنا لا نجد منـاصّـاً مـن تحـرّي تلـك العـلاقـة ، وذلـك للـوقـوف بمـوضـوع راهـن وضـاغـط وشـديـد الأهـميَّـة ، واضعيـن فـي اعتبارنا أنّ احتـدام الحـوار حول مسألة ما يضعها على تخوم النضج فاكتمال المحاور، عـلــى ألاّ يكون التوفيق أو التلفيق أو المنزلة بين المنزلتين في مقاصد أي طرف . ـ

ـ اللغة والهويّة: مقـدمـات مفـاهيـمـيّـة تـأسـيسـاً علـى مـا تقـدّم سنقرّ – بدايةً – بأنّ طرح المصطلحين المتلازم – في حـدّ ذاتـه – يسـتبطـن إقـراراً ضـمنيـاً بـأنّ ثـمّـة عـلاقـة بينهمـا، مـا يستدعي أسئلة عن الدوائر التي يلتقيان فيها، وتلك التي يفترقان فيها إن وُجدت . ـ
ثـمّ أنّ طـرحـاً كهـذا يلـزمنـا بـالـوقـوف علـى اللغـة بـوصـفهـا هـويـة ، أي بمـا تحمله في داخلها من عناصر قوة، على نحو يدفعنا إلى الإيمان بها من جهة، والتمسّك بها من جهة أخرى
علـى هـذا تعـالـوا نتفـق بـأنّ اللغة إذ نشـأت أُنـيـط بهـا وظـيفـة التـواصـل بين البشر أساساً، تلك هي الـوظـيفـة الـرئيسـة لها، في حين أنّ الهـويّـة تحيـلنـا إلـى الـذات الفـرديـة ، تـلـك الـتـي تُـبــتّ عـن ، وتـنتـمـي إلى الـذات الجماعية بمستوياتها المختلفة، التاريخية، الجغرافية، الثقافية، السياسية، الدينية، والحضارية بالإجمال ، فهل ثمّة حاجة للتذكير بأنّها تخلّقت عبر تقليد أصوات الطبيعة ؟
لـهـذا ســنـتـذكـر سـريـعـاً أنّ اللـغـة تـعـادل مـصـطـلـح اللـسـان، وأنّ طـرحـهـا إنّـمـا يـصــدر عــن الـعـقــل ، فـيـمــا يـتـأتـى الكـلام عـن الحـاجـة إلـى التـواصـل، أي أنّ اللغـة ملخـص للكـلام البشـريّ العاقل، على هذا يمكن القول بأنّ : ـ

اللغة : نطام اهتمام مستقل : (langue )

الكلام : ( parole ) وأنّ

هو تحقق هذا النظام في صورة مُقرّرة، على نحو ينجز وظـيفتي التعبير عن النـص والتـواصـل مـع الآخرين، أي أنّ اللغة إذ ترتبط بالهوية تتموضع في العقل، وليس على اللسان، ما قد يقتضي منّا التنويه

ــ اللغة والثقافة : ـ
إذا وضـعـنـا تـحـديـد البـدايـات فـي مـقـاصـدنـا، فـلا شــكّ فـي أنّ اللـغـة هي التي تنتج الثقـافـة ، إلاّ أنّ الثقـافـة – بدورها – تعتمد على وعاء لغويّ، بالاتكاء على هذا التـأسـيـس سـنـلاحـظ تـداخـل الـدائـرتـين وتلازمهما، ذلك أنّ اللغة هي الفكر في تفاعله مع الأشياء، وموقفها منها، في حين أنّ الثقافة هي تشـابـك تـلـك الأشـيـاء، إذ أنّـها تملي علينا طريقة التعامل معها، وتحدّد اسـتجـابـاتنا إزاءهـا، بهذا المعنـى يمكـننـا القـول بـأنّ اللغة إذا كـانـت عنصراً في بناء الثقافة، فإنّ الثقافة تؤثر – هي الأخرى – في اللغة باعتبارها فكراً، وعلى هـذا أيضاً ينبغي أن نميِّز بين حقلين آخرين، إذ أنّنا مطالبون بالتفريق بين اللغة والثقافة من جهة ، وبينها وبيـن العلـم مـن جهـة أخرى، ذلك أنّ الثقافة إنّما هي نظرية في السلوك، في حين أنّ العلم نظرية في المعرفة . ـ

ــ اللغة والتواصل ، اللغة والهوية : ـ
من المهم أن نشـير إلى أنّ التواصل وظيفة مُجرّدة، محدودة القيمة، وتكمن أهمية التواصـل في تأثيره إذ يرتـد إلى الفكر، أمّا الهوية فتتمحور حول الذات والهويّة والماهية، هي قادمة من عالم الفلسفة – إذاً – في صـورة مصـدر صـناعيّ، يقوم على النسبة، لذلك فهي تحيل إلى الانتماء والتساوي والتشابه، وهي تنحو إلى التركـيـب حـيـن تـعبّـر عـن جـمـاعة أو أمة، ذلك أنّها ترتبط بمصالحهم وغاياتهم الجمعية، على هذا فهي لا تولد مع الإنسان، بل ترتبط بـالمحيط كاللغة والثـقـافـة بعـلاقـة جـدّ وثيقـة، أي بالمعـنى التاريخي للمجتمع علوماً ومعارفاً ومواقفاً وذكـريـات ومشـاعـراً وأفراحاً وتجارباً ، هذا كله يسهم في تشكيل هوية الجماعة في الزمان والمكان – الجغرافية – والدين بما هو رؤيـة الـذات والآخـر والكـون . ـ ثـمّ أنّ اللـغـة هـي الـتـي صـاغـت أوّل هُويّة، أي كـينـونـة جمـاعـة عبـر التـاريـخ، فاللسـان الـواحـد هــو الـذي صـيّـر فئة من الناس جماعة واحدة
ويُـلاحَـظ أنّ أهـميـة العـلاقـة بـيـن اللـغـة والهُـويّـة تـزداد في المنعطفات التاريخية، لتتبـدّى عبـر مـسـار تصـاعديّ في المنعطفات الحضارية الإيجابية، هل نستشهد بدور الدولة الإسلامية في بلورة هُويّة عربيّة، لـم تنأى عن القـداسة ، باعتبـار اللغـة العـربيـة لغة للقرآن الكـريم ، لكنّها – أي تلك العلاقة – ستتبدى سلباً في الانكسار والتشظي والغياب عن ساحة الفعل والتأثير، ولعلنـا نقع على ضـالتنـا – تمـثيـلاً – في الموات القارّ للمنطقة العربيّة في ظلّ الإمبراطورية العثمانية . ـ
ثـم أنّ الصـعـود منسـوبـاً للإسـلام ، والهبوط متموضعاً في خانة الخضوع للعثمانيين ، سيتماهيان كشيء واحد ـ كـيف ؟ إذا وعينا بأنّ اللغة والهُويّة خاصيتان إنسانيّتان، اللغة هي لغة الإنسـان، لأنّه الكائن الوحيد الذي يحـوز الـوعـي ، ويتحصّـل عليه ، الوعي والشعور بالذات، وبالآخر، على نحو يعيدنا إلى موضوعة ارتباطهما بالعقل، أي أنّهما خاصيتان عاقلتان . ـ
وإذا كنّـا قـد ألمحنـا – سريعاً – إلى تشكلهما في الزمن، فإنّنا إذ نقف بهذا التشكل مليّاً سنقول بأوليتهما، فهما قديمتان، لقد وُجِدتـا بوجـود الإنسـان علـى سطح البسيطة، وفي هذا قد نتذكر بأنّ الله ” عزّ وجلّ ” ميّز آدم بالعلم بالأسماء ” وعلم آدم الأسماء على الملائكة.. ” سورة البقرة، الآية 31 “
وسنقول بأنّهما كلّ مركّب بلغة الفلسفة والمنطق، أي أنّهما كلّ تندرج تحته أجزاء، بهذا المعنى فهي تشتمل على طرائق التفكير والتاريخ والمشـاعـر والإرادة والطـموحات وشكل العلاقات، وسنؤكّد على أنّهما – إلى ذلك – تاريخيتان، مترجمين وموضّحين – بذلك – مـا أسـلفنـاه مـن أنّهمـا تشـكلتـا فـي الزمن، وأخذتا بالتالي أبعادهما على تدرّج . ـ
بقي أن نشير إلى أنّهما جمعيتان، أي أنّهما لا تعيشان داخل الفرد المنعزل، وها نـحـن – في حساب الجنى – نـرى بأنّ اللغة والهُويّة إنّما هما وجهان لعملة واحدة، أي أنّ الإنسان في جوهره ليس سوى لـغـة وهُـويّـة، اللغـة بمـا هـي فـكـره ولسانه، وفي الوقت ذاته بما هي انتماؤه، انتماؤه الفردي، أي تمايزه كذات، وانتماؤه الجماعيّ، أي اندماجه بها، وفي المجتبى بما هي هُويّته . ـ
هذا فيما يخصّ الدوائر التـي يلتـقيـان فيـهـا، أمّـا تـلـك التي يفترقان فيهما فقد تتلخّص في حالة الهزيمة التي تحيق بأمّة مثلاً، ذلك أنّنا – إذ ذاك – سنجد ارتباكـاً واضـحـاً فـي التعبير عن الهُويّة – سيقتصر حديثنا عليها لاحقاً – في الخطاب الرسميّ العربي، وذلك في أعقاب هزيمـة حـزيران 1967، ناهيك عن أنّ تلمسها عند النخب الثقافية بدا – هو الآخر – مُلتبساً، يشكو الاضطراب والإبهام . ـ
يضاف إلى ما تقدّمَ غياب المشروع المُعبّر عن طموحات البشر وآمالهم، وسنجد التعبير عن هذا الغياب في تسيّد الخطاب القطريّ على حساب الخطاب القوميّ، ذلك أنّه – أي الخطـاب القطـري – وأد – وإلى أمد غير معلـوم تطلعاً – يشكو الإبهام أساساً – إلى وحدة الصفّ ، واضعين في اعتبارنا مـحـور التـجمعـات ( السوق الأوروبيّـة المُشـتـركـة أو الامـبـراطـوريات ، الـولايات المتحدة الأمريكيّة ) على نحو لا تتحصّل الكيانات القطرية معه على أوراق تلعب بها . ـ
ثمّ أنّ العرب المسلمين إذ أخرجوا من الأندلس – على يد ملوك قشتالة ” إيزابيلا وفرديناند ” في اتحادهما – إنّمـا كانوا كمن يستقيل من التاريخ، ما سـيشـي – لاحـقـاً – بغـيـاب وعـي الأنـا الحضـاريّ لأمـد طـويل ! ـ
فهـل نتـذكّـر بأنّـنـا إذ نـقف اليوم – حتى – بالعامل الدينيّ بما هو عامل موحّد، سنفاجأ بأنّ انقسامه المذهبيّ صيّره عامل تشظٍّ وقسـمـة وافتراق ؟! عليه ستبدو موضوعة – وسمناها بالإيغال في التجريد – على درجة كبيرة من الأهميّة، إذ في ضوء وعي المنطقة لها قد تتحدّد خطاها، بشكل يضعها على خارطة العالم، الذي لم يعد فيه مكان للضعـفـاء، ذلـك أنّ هـؤلاء الضـعفاء – في ظلّ انقسام العالم إلى شمال غنيّ، وجنوب فقير ومُخلف – قد يكونون عبيد العالم المقبل، ما يقتضي التنويه ثانية .. ـ

محمد باقي محمد

اللوحة للفنان السوري ياسر الغربي

Written by فضاءات

What do you think?

Comments

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Loading…

0
الأميرة هند بنت عبدالرحمن تشارك في فعالية يوم المرأة الإماراتية

الأميرة هند بنت عبدالرحمن تشارك في فعالية يوم المرأة الإماراتية

النرجسي . غرور يغرق صاحبه