in , , ,

الجمال وإبداع اللغة عند العرب

جـنّـة الجمـال تلـك التـي رافقت الإنسـان مـرتـقيـة مـعـه مـا ارتـقـى ، وقـد يـكـون الـجمـال أحـد أهـم وأرقـى مـبـاحـث وهوى البـشــر ؛ لا شــيء يُـفــرِح كـمــا الـجـمـال ولا قيمـة تـوازي الجمـال ، فـي الـبـدايـة كـان أمراً سـهـلاً يـقـوم عـلـى الخـيـال والمـشــاعـر ، وكـلّمـا كُـشِــفَ ســتـرٌ عـن سـرٍّ ما أو غموضٍ ،ارتقت النـظـرة إلـى الـجمـال وازدادت عمقاً حتى أصبح علم الجمال عاموداً فلسفيَّاً وإنسانيّاً ومـرتـكـزاً يمتـد عمـيقـاً جـداً لـيـتـجـذّر ممـيـزاً حـيـاة الـبـشــر وســابـغـاً عـلـيـهـا المعـنـى والـعـمـق
ـ وللجمال مقامات لعلّ أبسطها وأيسرها (الجمال الجسدي) ، وقد شغل الشعوب كلها ، وأكثر الشعوب تحضراً عرفت الجمال مبكراً ، ولما كانت قطوف هذا العلم تفيض على تحصيلنا سنكتفي منها بالدانية
ـ ولـنـبـدأ بـالـعــرب الـذيــن وقّــروا الـجـمـال وجـعـلــوه فـي مـكــانــة ســامـيـة وســلـكـوا بـه دروبـاً مـتـنـوعـة ، فـمـن مـنّـا لا يذكر حوارية عائشة بنت طلحة وسكينة بنت السادات ،وقد اختلفتا مَن هي أجـمـل نسـاء العـرب ، ثـم قررتا الاحتكام لدى [ عمر بن أبي ربيعة ] وبدوره شاعر الجمال ، يقضي بجمال سكينة وبملاحة عائشة التي سرَّت تماماً وأثنت على شـاعرنا عمر بقولها: “حكـمـت لي والله يا عـمر”ـ وللسائـل عـن ( الملاحـة ) هي عند العرب صنو الجمال أي توأمه ، وهي ما يطلق عليه اليوم اللـفـظ اللاتيني{الكاريزما} ،وهي أبقى من الجمال الذي لا قوة له على محاربة صنوف الدهر وتقلباته

ـ وأمّـا زوجـة أحـد فرسـان العـرب فـلـقـد صـرخـت جـذلـة عندما رأت زوجها قائلة : ” ما أجملك ! ” فـــردَّ عـلـيـهـا : ” ويـحـك يـا امـرأة ! كـيـف وليـس لي عامود الجمال وبي اعتدال ، وليس لي برنس الجمـال (الشعر الأسـود الكـثـيـف) وأنا أجلح ،وليـس لي رداء الجمال (البشـرة البيضاء) وأنا أسـمر ” دُهشـت الزوجـة فنظر إليها – مؤكداً شعورها المرهف – وقال : ” قولي ما أملحك ! ” والملاحة تعني جـمـال كـنـارٍ مـشـبـوبـة لا تـعـلـم مـن أيـن تـأتـي ، وهـو مـا اصـطـلـح عـلـى تـسـمـيـتـه بـالـجـاذبـيّـة
ـ وقـد قسَّـم الـعـرب الجـمـال إلـى أقـسـام فـمـنـه الـرائع مثل النور والظلمة والجبال والسحاب والرياح والسـماء والـنجـوم ، الـتـي يـبـعــث جـمـالـهـا وكـمـال حـدوثهـا علـى خفق الـرّوع وحيرة فـي السؤال ودهشة الخلـق ، ومـنـهـا جـمـال الـمـرأة والـرجل ، وقـد قـسِّــم بـدوره إلـى مـواضـع ، فمن كانت هي تـلـــك التـي اكتمل جمالها وزينتها ،ومن كانت غانية استغنت بجمالها عن الزّينة ، ومن كانت وطفاء فـتـلــك التي تميـزت بـرمـوش طـويلـة ، والنـجـلاء تميـزت بعـيـون واسـعـة والحـوراء ذات الـعـيـون الشـديدة سواد العين وبياض الحجاج ، وأمّـــا الغيـداء فهـي جميـلة القـد وذات الدلال في مشيتها ، وأمّا الغـادة فهـي جـميـلـة الوجه حسنة القوام … ولا تـكـاد تجد شيئاً جميلاً إلّا وله مقام من الجمال فالعذوبة بــاب منه يصف به العرب حلاوة الكلام ولطف المحيَّـا ،وأمّـا الـماء فله ملك العذوبة ، ولنذهب مذهب الـرِّقـة مـقـام الـزهــور والـفـراشــات والـطـفــولــة والـحـركـة المـتـنــاســقـة المـتـوازنـة ، ولا بـدَّ مـن الإشــارة إلـى أنَّ الـعـرب فضَّلوا الأنثى ذات الخصر الرّقيق والأرداف الثقيلة
ـ لـقـد تـبـايـنـت الـشـعـوب في نظرتها للجمال ، فالـبـعـض وجـده فـي تـنـاقـض بـيـن السـواد والبياض ، والبعض الآخر – كما في أوروبا – في عيون ملونة ،ولكن قد يكون ذلك وتفـتـقـد المـلامـح ذلـك التناسق والانسجام ، ليتفقوا أخيراً أنّ الجمال ليس مسطرة وقلم بل عملية انسجام أو ما يُـطـلـق عليه الهارموني الـذي أبدعت عملية الخلق صنعه لدرجة بلغت فيه الكمال دون معايير بحد ذاتها ، فالجمال نسب وتناسب وتوازن واتساق وانسجام

إيمان أبو عساف

الصور ة لوحة للفنان السوري عنايت عطار

Written by فضاءات

What do you think?

Comments

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Loading…

0
جمعية "فكرة" توقع اتفاقية نحو تطوير ريادة الأعمال الاجتماعية

جمعية “فكرة” توقع اتفاقية نحو تطوير ريادة الأعمال الاجتماعية

نوستالجيا_ بيوت الجدّات