التاريخ والدراما / 7 / البلبل

هـنـاك مثـلٌ يـوغسـلافيّ يقـول : ” غناءُ بلبلٍ وحيدٍ لا يصنعُ ربيعاً ” ـ
هـل كـان تـيـتـو بـلبـلاً وحيـداً ؟ غنّـى سـتـةً وثـلاثيـن عـامـاً ولكنّـه لـم يـصـنـع ربـيعـاً.
هنـالـك منـاطـقَ جـغـرافـيّـةً عـلـى الأرض ؛ عـليهـا بلادٌ نقرأ أسماءَها على الخارطة ، تشبه الثقوبَ السوداء – إذا استعرنا لغةَ الفيزياء – فهي تتمـتـع بـقـوة جـذبٍ هـائـلـةٍ ولا تـقـبـل الفـراغ ، وكـلُّ مـن يـقـتـرب مـن تـلـك الـثـقـوب السـوداء سـيـعـلـق فـي لُـجَّـتـهـا ويـتـأثـر بـهـا لأقـصـى الحـدود.
مـن تـلـك الـبـلاد شــرق المتوسـط مثـلاًـ، وكذلـك القـوقـاز ، ومـا يـعـنـيـني هنا منطقة (البلقان) مـــا كــــان يُسـمّـى ( يـوغسـلافيـا ) هـي دولـةٌ لـهـا سـبـعُ صـفـاتٍ تـتـلاحـق مـع تـلاحـق الأرقـام : ـ
1- يـوغسـلافـيـا كـانـت دولـةً واحـدةً تـسـمّـی الـجـمـهـوريـة الاتـحـاديـة اليـوغـسـلافـيـة.
2- تـسـتـعـمـل أبـجـديـتـيـن : الـلاتـيـنـيـة والـسـيـريـلـيـة.
3- تتحدث ثلاث لغات : الصربية، الكرواتية، السلوفينية.
4- تعتنق أربعة أديان : المسيحية الأرثوذكسية ، المسيحية الكاثوليكية ، الإسلام ، اليهودية.
5- هي موطنٌ لخمس قوميات: السلوفينية، الكرواتية، الصربية، المقدونية، الجـبـل الأسـود.
6- تضم يوغسلافيا ستّ جمهوريات: صربيا، البوسنة والهرسك، كرواتيا، سلوفينيا، مقدونيا، الجبل الأسود.
7- لها سبعة جيران دوليين : إيطاليا ، النمسا ، المجر ، رومانيا ، بلغاريا ، اليونان ، ألبانيا.
هذه الأرقام بقدر ما تَصِفُ يوغسلافيا فهي تُوصّفُ مشاكلَها كذلك ، يقول الماريشال جوزيب بروز تيتو : ـ
ـ ” بـعـض النـاس يـقـولـون أنّـنـي أولُ يـوغسـلافـيٍّ فـي التـاريـخ ، وبـعـضــهـم يـقــول أنَّـنـي قــد أكــون آخـرَ يـوغسلافيّ في الـتـاريـخ ” ـ
كـأنَّـهـا نـبـوءةُ عـرّاف ! ـ
ـ تـقـول الحـكـايـة : جـوزيب بروز أو القائد الذي كنا نعرفه باسم (تيتو) 1892 – 1980 من مواليد قرية كرواتية بجوار زغـرب تُـدعی كـومـروفـيـك ، فـي الأصل كان عملُهُ ميكانيكياً ثم انضمَّ للحزب الشيوعيّ اليوغسلافيّ وقاد حركة المقاومة ضد الغزو النازي لبلده إبـان الحرب الثانية ، ثم حكم يوغسلافيا من عام 1946 وحتی رحيله ، حافظَ تيتو على توازنٍ قلقٍ في علاقـتـه مـع الـسـوفـيـيـت ومـع الغـرب أثناء وبعد الحرب وصنع لنفسه هامشاً من الحرية ناور فيه وبذكاء رغم أنّ ذلك وقتها كان يُعتبر تجـديفـاً فـي عُـرْف السـوفـيـيـت وخـاصـةً حـيـن يـكـون صـادراً مـن قـائـدٍ شـيـوعـيٍّ مـن وزن جـوزيـب بـروز.
يُقال أنَّه في أثناء الحـرب ،عـنـدمـا كـان تـيـتو يقود حركة الأنصار ويُوقع بالنازيين خسائرَ فادحة أثارت جنونَهُم وعطّلت لهم ثلاثين فرقةً وَحَلَت فـي الأرض الـيـوغسـلافـيـة التـي كانت خنجراً في خاصرة هتلر وموسوليني كليهما.
حدث أنِ اختفى تيتو عن الرادار لأسبوعين من مقر قيادته في جزيرة ( تريستا ) وبدأ البحث عنه واتضح أنَّه كان في موسكو للقاءٍ سرّي مع ستالين ، أرسل تشرشل مندوباً عنه ليسـأل تـيتـو عـن تلك الزيارة بعد عـودتـه حيث كان تشرشل مهتاجاً لأن تيتو لم يُعلِمْهُ بأمرها ، جاء مندوب المخابرات البريطـانيـة وسـأل تيتو عن زيـارته ولماذا لم يخبر تشرشل بها رغم أنَّهما حلفاء، فردّ عليه جوزيب بروز قائلاً : ” لقد التقى صاحـبُـكَ – يـقـصــد تشــرشــل – مـع روزفلـت فـي بـرمـودا سـرّاً ولم يخبرني فلماذا عليَّ أنا أن أخبرَهُ ، نحن حلفاء لكم ولسنا تابعين ” ـ
فـرقٌ كـبيـر بـيـن الحـلـفـاء وبـيـن التـابـعيـن ، فـرقٌ فـي القـيمة والكبرياء وحتى في لهجة الخطاب بينهما.
بلى إنّ غناءَ بلبلٍ وحـيـد لا يـصـنـع ربـيـعـاً ولكـنّـهُ يـبـقـى بـلـبـلاً عـلـى الأقـل ويـبـقى صـوتـهُ غـنـاءً ! ـ

د. عمر عبيد

٢