in ,

وجه آخر لباريس

منذ سنوات طويلة، هذه الصورة بين اوراقي تطالعني، وتعيد ترتيب شغفي بباريس، بفرنسا بموطني، بعلاقتنا الاشكالية مع اوربا والاوربيين.
وقد شكل هذا الطفل المشرد الذي يرمي حمولة استخفافه على رمز حضارة راسخ خلفية حقيقية لكثير مما قلته في صفوفي، حين يكون الموضوع حوارا حضاريا.

في جلسة مع مدرس فرنسي أيام تأهيلنا كمدرسين،سألنا المدرس عن وجهة نظرنا تجاه الفرنسي كانسان، كمواطن. انهالت من جهتنا كلمات الاعجاب والتقدير لذاك الشعب،وقد سبق لي ان كنت احمل وجهة نظر زملائي نفسها. انتظرتهم حتى انتهوا، واوجزت ما صارت اليه افكاري في نضوجها تجاه عدم التبعية الفكرية لهم. بثقة،وبصوت هادئ توسعت في الحديث عن الشعب للسوري، الشعب العربي الخلاق، عن الانسان الذي صنع حضارة ماتزال تقاوم الضغوط ونقاط الضعف، وما زالت تقاوم ضغوط الفرنسيين بالذات،عن المرأة، السورية،المرأة العربية التي تصنع من اللاشيئ اشياء كثيرة.
عن حلمي بزيارة فرنسا بينما قوانينه الجائرة بحق السوريين تعطل زيارتي وتستنزف ميزانيتي.
في دورات التأهيل تلك، اكد احد المدرسين الفرنسيين انه سيعود بعد فترة الى سورية ،بعدما انتهت فترة عمله هنا،استغربنا، قال
*Je promets *
أعدكم. عاد ليدعونا الى خطوبته مع سورية مميزة اكمل ارتباطه معها بالزواج.
انتبهت فيما بعد ان الفرنسيين الذين قدموا للعمل كمدرسين للغة وناشري حضارة، عادوا الى فرنسا واستمروا يراسلون اصدقاءهم هنا بمحبة حقيقية واخلاص كبير،انهم واجهوا صعوبات كثير في اعادة تأقلمهم مع طبيعة فرنسا الاجتماعية التي تفتقر الى الود. كانوا يعملون في سورية ويحققون انجازات عملية في جو دافىء افتقدوه بعد عودتهم الى بلادهم،وقد ذكروا كثيرا من اضافات معرفية وحضارية اكتسبوها خلال اقامتهم عندنا ومخالطتهم لشعبنا.
كان تأسيس فرنسا المعاصرة على يد الملك Luis 14، لويس الرابع عشر، نقلة نوعية في تاريخ البشرية الحالي، لانه اعطاها من جموح خياله وحسن ادارته، واسس منها دولة ذات بنية تحتية قاومت الضعف، وسعت الى مجد عرفت كيف تطاله،رغم السلطة الديكتاتورية التي اتسم بها.
وقد ادى هذا التطور التنوع الغني في بيئة فرنسا الى تحولها السريع، اقتصاديا وفكريا، صارت قبلة للطامحين، ومرجعا للمفكرين، فكان حي بسيط في باريس، الحي اللاتيني، مسرحا لنقلة نوعية في تاريخ الادب والفكر والفن، اجتذبت المريدين من أقطاب العالم، شكلوا مختبرا غنيا استفاد من جعبتهم الملأى واستشرف آفاقا طبعت ما غدونا عليه من أسلوب ونهج.
رغم ما يطلقون على فرنسا من صفات وانتقادات، تبقى في جوهرها كيانا مرنا يستقبل الجديد ويعطيه من ذخيرته ويتفاعل معه حتى ينتج الأجمل، بشهادة باريس الراهنة التي استقبلت مهاجرين تركوا خلفهم كل ما كان لهم، وتمكنوا سريعا من بناء كيان جديد لأنفسهم ولإمكانياتم حيث تتفتح المواهب وتثمر الجهود.

ما زلت ممتنة لدراستي اللغة الفرنسية، شغوفة بباريس، ما زلت اتمنى زيارتها، لكني صرت اعرف ان باريس قدمت الى دمشق في مفهوم إيجابي، من خلال مدارسها اللغوية، ومرتكزاتها الثقافية التي أغنتي، وعلمتني اساليب متطورة في عملي، هذبت طبعي
وقربتني ثقافيا من بلد اعتقد اننا ،لا بد، يوما ما،سنحصل على تعامل معه ندا لند، ليس كخصم ولا مستعمر قديما كان او حديثا. لاني ارى، بوضوح وثقة، ملامح عصر الاستغراب، على يدي المشرقيين الذين يعملون بجهد كي يمحوا آثار الاستشراق الذي كبدنا ما استنزف بلادنا على يد الاوروبيين

نهى عبد الصمد

Written by فضاءات

What do you think?

Comments

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Loading…

0

فيل في ساحة المدينة والكل يتجاهله

لماذا فضاءات ؟