in ,

التاريخ والدراما / 6 / الملك الشاعر

بعـد انهيـار الخـلافـة الأمـويّة في الأنـدلـس علی يـدَي [ المنصـور بن أبي عامر ] اسـتقلّت كلُّ مدينةٍ وحكمَها قاضيها الذي كان من بِطانةِ المنصور.
قـرطـبـة حكمَهـا بنـو جَهْـوَر ـ إشـبيليـة بنـو عَبّـاد ـ غـرنـاطـة بنـو زيـري ـ طـليطـلـة بـنـو المـأمـون
ـ اشـتـدَّت النـزاعـاتُ بينَهُـم مع بـزوغِ نجـمِ أميـرٍ إسـبانـيّ هـو ألفـونسـو السادس أو أذفنش كما سماه المؤرخون العرب والذي استفاد من خلافاتِهِم وضرَبَهُم ببعضِهِم لإضعافِهِم واسترداد الأندلس من بينِ أيديهِم
ـ وصلَ إلی الحكم في إشـبيلية شـابٌّ شـاعـرٌ فـارسٌ وُلِـدَ وفي فمِـهِ ملعقـةٌ مـن الـذهـب ( كـمـا يُـقـال ) وهــو محمّـد بـنُ عَبّـاد الملقّـبُ بالمعتمِـد والـذي تكَنّـی باسـم جاريتِه التي جعلَها زوجاً لهُ وكان اسمُها اعتماد ولقبُها الرُّمَيكيّة
ـ كان للمعتمد أشعار جميلة تشابه أندلسه الجميلة مثل : ـ
عَــــلِّلْ فؤادَكَ قد أبَلَّ علـــــــــيلُ .. والكأسُ سيفٌ في يدَيْكَ صقيلُ
بالعقلِ تزدحمُ الهمومُ على الحَشا .. فالعـقلُ عندي أنْ تزولَ عقولُ
ـ تقولُ الحكاية : ـ
إنّ المعتمِـدَ اصـطفی مـن بطـانتِـهِ رجـلاً مجهـولَ الحَسـب والنسـب عُـرِفَ ب ابـن عمّـار وكـان رفيقََهُ وصـديقََـهُ وخـليـلَـهُ ، وكـان ابـنُ عمّـار شـاعـراً مُـجـيـداً ورجـلَ سـيـاسـةٍ داهيـة.
اسـتغـلَّ ابـن عمـار أحـوالَ الأندلـس المضـطـربة ، وصـنـعَ لنفسِـهِ مجـداً شـخصـيّـاً ونفـوذاً كبيـراً عند الجميع عدوّاً كان أم صديقاً ، لأنّهُ أجادَ اللعبَ علی الحبال كلِّها حتی سُمّيَ ( فتی الجزيرة ) وفـعـلاً كان شخصيّةً من أغربِ وأعجَبِ مَن مرّوا في تاريخ الأندلس علی كُثرَتِهِم.
كـان عـدوُّ ابـن عمّار اللـدود هـي اعـتـمـاد زوجـةُ المعتـمـد ، والتي لـم يعجبهـا الـرجل ولم تعجبها شدّة المحبّـة التي تجمَعُـهُ بزوجها فأوغرَت صـدرَهُ علی ابن عمّار ، فلما أحسَّ ابنُ عمّار بتغيُّر المعتمِدِ عليه عملَ لحسابه الشخصيّ، فأخذَ حصناً بعيداً عن إشبيلية واستقلَّ بهِ وأعلنَ نفسَهُ حاكماً عليه، وهناك أخذ يهجو صاحبَهُ المُعتمِد ويسخرُ منهُ في شعرهِ بأشـعارٍ مُسِفّةٍ مُهينةٍ تعطي انطباعاً عن أحوالِ الأندلس المريضةِ أيّامَها ، ثم وقعَ ابنُ عمّار في أسرِ المعتمد بعد أن وضعَ مكافأةً علی رأسِهِ وزَجَّ به في السجن ، وكلّما همَّ المعتمِدُ بقتلِهِ يبعثُ ابنُ عمّار له شعراً رقـيقاً حزيناً يعتذرُ فيه عن زلّتِهِ فيتردّدُ المعتمدُ ثمّ يُحجِمُ عن قتلِهِ
ـ طـار صـوابُ الزوجـة واجتمَعَـت بزوجِـهـا وأخذت تُحـرِّضُـهُ علی قتلِ ابنِ عمّار ، وهو متردِّدٌ ، حتی اضطُرَّت لإعادةِ الشعرِ الذي هجاها به ابـنُ عمارٍ وهَجا زوجَها وأولادَها، وقالت للمعتمد : تَذَكّرْ ما قالَهُ الخبيثُ عنك وعنّا وراحت تُردّدُ : ـ
تخَيَّرْتَها من بناتِ الهِجانِ رُمَيكيّةً لا تُساوي عِقالا
فجاءت بِكُلِّ قصيرِ العِذارِ لئيمِ النِّجَارَينِ عَمّاً وخالا
قِصــارُ القُــدودِ ولكنَّـهُم أقاموا عليها قُروناً طوالا
سأهتِكُ عِرضَكَ شيئاً فشيئاً وأكشِفُ سِترَكَ حالاً فَحالا

فغابَ صوابُ المعتمد ودخلَ علی ابن عمّار في سجنه وقتلَهُ بيدَيه.

ـ عـاشَ المعتمـدُ بعـدَهـا ، وبقـي علی حـبِّـهِ لـزوجـهِ اعتماد الرميكيّة حتی أنّها عندما غارت من البنات اللواتي ينقُلْنَ اللبنَ ويخُضْنَ في الوحل طلبت منهُ أن تُقلِّدَهُنَّ فأمرَ صُنّاعَهُ بإنشاءِ بِركةٍ من المسكِ والكافورِ والعنبرِ ـ وكلُّ هذا كان باهظَ الثمنِ ـ حتی صار مثلَ الوحلِ فغاصت فيه الرميكيّةُ ، وحقّقت رغبتَها .
ـ كـلُّ هـذا جمـيـلٌ ورومنسـيٌّ لولا أنَّ البلادَ كانت تحت رحمةِ ملك قشتالة ( ألفونسو ) وجيشه فاضطرَّ المعتمد للاسـتعـانـة بمسلمي المغرب من المرابطين الذين هزموا الجيش الإسبانيّ في موقعة الزلاّقة التي أبلی فيها المعتمدُ أحسنَ البلاء لكنَّ ذلك لم يشفع لهُ عند ابن تاشفين أمير المرابطين الزاهد المتقشّف الذي عزلَ المعتمدَ وقتلَ أولادَهُ ونفاهُ من جِنانِ إشبيلية إلی قريةٍ في أقاصي الصحراء المغربية تُسمّی أغمات ، وهنـاك مـاتَ الملـكُ وزوجتهُ بعد أن عانيا الفقر والعَوَز والذلّ سنوات.. ظلَّ المعتمدُ وفيّاً لزوجِهِ مخلصاً لشعرِهِ محتفظاً بأنَفتـه بعـد أن ضـاعَ كـلُّ شـيء ، وفي رمَقهِ الأخير طلبَ أن يُكتَبَ علی قبرهِ هذه الأبيات الـرائـعـة الـتـي خـلَّـدَت أغمـات ( منفـاه ) وأصـبـحَ قـبـرهُـمـاُ مـزاراً تـتـبـرَّكُ بـه النـاس حـتـی الـيوم : ـ
قـبـرَ الغـريـبِ سـقـاكَ الرائحُ الغادي .. حقاً ظفرْتَ بأشـلاءِ ابنِ عَبّادِ
نـعـم هـوَ الـحــقُّ وافـانـي بــهِ قَــدَرٌ .. مـنَ السـمـاءِ فَوافاني بميعادِ
ولم أكُن قـبـلَ ذاكَ النـعــشِ أعـلَـمُـهُ .. أنَّ الجبالَ تَهادی فوقَ أعوادِ
كَفاكَ فارفقْ بما استُودِعْتَ مِن كَرَمٍ .. رَوّاكَ كلُّ قَطُـوبِ البرقِ رَعّادِ
ـ هذا ملكٌ خلّدهُ شِعره، وقد ذهبَ المُلْكُ وبقي الشعر، فانتصرَ الشعر في ميدان الخلود ، وبرأيي المتواضع
تجوزُ الرحمةُ على الشاعر ولكنها لا تجوز على المَلك


د. عمر عبيد

Written by فضاءات

What do you think?

Comments

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Loading…

0

ما لا تعرفه عن مشكلات الناجحين

عصيّ الدمع حين يبدع حاتم علي