in

نبل زائف

كـانـت مملكة ” السواهي و الدواهي ” يحكمها ملك ، شأنه شأن كل الملوك في غابر الأزمان ، ومرَّتْ السـنـون والممـلكـة تزدهر و تتطور، و سافلها يرتفع نحو عاليها ، وكان الملك ينتظر أن يهبه الله صبياً يرث العرش حتى أصـبـح ذلـك مـركـزَ همّـه وغمّـه ، إلى أن صـارحَـه طبيبُ البلاط الخاص ” أنّك يا جـلالـة المـلـك عـقـيـم ، ولا أمـل في إنجاب وريثٍ أو وليّ للعهـد ” ، و اسودّتْ الدنيـا بـوجـه المـلـك ، وانـحـصـر كـلُّ تفكيره ، أنّه في حال لم يُرزقْ بصبي يَرثه ، سيذهب المُلك و العرش..! ـ وكـان عـنـده وزيــرٌ نـصـوح حكـيـم وعـالـم ، يـعـرف بـشـؤون الـرعيـة والعلوم والآداب والفلسفة ، وقد قرّبَهُ الملكُ كثيراً ، فأصبحَ من خاصته المقربة ، وأصبح الملك لا يتحـرك ، ولا يتصـرّف إلا بـعد استشارة وزيره
وذات مـرة طـلـبَ الملـكُ من الوزير أن يمضيا بعض الوقت معاً ،و يتسلّيا بلعبة الشطرنج ، و انتصف اللـيـل ولم ينقص من خـوف الملـك شـيئـاً ، وفـي هـذه الأثـنـاء كـان طـبّاخُ البلاط الخاص يروح ويأتي بأصـنـاف المـأكولات والمكسـرات و المـرطبـات ،شكا الملك للوزير همّه وغمّه ،وطلب منه النصيحة النصوحة والمشورة الخاصة بأن يكون لـه ولداً يَرِثُه ،قبل أن يبلغ من العمر عتيّاً ، وقد أفضى الملكُ له بنصيحة طبيب البلاط الخاص والتي تقول (أنّ طباخ البلاط الخاص الذي تأثّر بطباع وسلوك الطبّاخات، وأصبحت تبدو عليه علامات “الخنوثة” فلتطلبَ منه أن يتمثل لجلالة الملكة وكأنّه ملاك، وبلباس أبيض فضفاض ،وفي عتمة الزمن ،ومخططات الشيطان سيحدث ما حُسِبَ بالميزان ،ويكون أمراً مقضياً…)ـ
ـ فقـال لـه الـوزيـرُ : ” أعطِني يوماً واحداً لأفكر ، و أعطيك نصيحتي ” ، فكان له ما أرادَ ، وفي الليلة التالية ، وضوء القمر يـفيـض علـى حـدائـق القصـر ، والملـك ينتظـر النصـيحـةَ و المشـورةَ ، فقـال له الوزيرُ : ” هل تقبلَها ، لو كانت على حساب المُلْكِ والعرشِ و التاجِ ؟ ” ـ
ـ فقال له : ” هاتِ ما عندك ،المهم أن تبقى المملكة تحمل اسمي ،ويبقى التاجُ و العرشُ في قصري“ـ
ـ تـنهّـد الـوزيـرُ بحـسـرةٍ و ألـمٍ ، وقال : ” يا جلالةَ الملك إيّاكَ ، إيّاكَ أن تأخذَ بنصيحة طبيبك الخاص
إياك أن تبادلَ الكرامةَ ومستقبل المملكة بأي مُلْكٍ أو عرشٍ ، وحتى لو زال العرش و الملك ، لأنَّ هذه الخطايا و القضايا مكشوفةٌ لا محـالـة ، ولا بـدَّ أن تـدمّـرَ المملكـة عـاجـلاً أو آجـلاً ، ويصـبـح عـاليهـا سافلَها ، وهذه نصيحتي يا جلالة الملك..
” ـ
لـم يَـنَـمْ جـلالـتـه ، وبـقـي طـوالَ الليل يفكّرُ ، أيأخذُ بنصيحة الطبيب الخاص ، أو يأخذ بنصيحة وزيره ويضحّي بالملك و العرش…!؟ ، ومـا أن انبـلـجَ الصباح إلا و كان الشيطانُ قد فعلَ فعلته ، و وسوس له بأهمية قدوم ولي العهد (ابن الحرام) ، وسبحان الله إنّ أعمـال الحـرام تثمـر فـوراً ، ولكـن إلـى حـين… وحملت جلالتها ، وبعد تسعة أشهر ولد ولي العهد ، و ازدانتْ المملكة بالاحتفالات والأهازيج ،والرعب والخـوف ينهـش صـدرَ المـلـك فيمـا لو كُشِفَ المستورُ ، وفار التنورُ ، وعرفتْ الرعيّة بما حدث ، فقـدم الطـبيبُ لجلالته نصيحةً جاهزةً بـأن يتخلّـص من الطبّاخ بالسمِّ ، وكان أمراً مقضياً آخر ، ماتَ الطباخ ، وكبر و شبّ وليُّ العهد ، ومرت السـنـون بسـرعـة ، ودبّ المـرضُ فـي جسم الملك ، الذي تخافه العوامُ والخواص ، ماتَ الملك ، و نُصِّبَ الملك الجديد بمراسم و احتفـالات ، وصـدر الفـرمـانُ الأوّلُ بـتـعيـيـن الوزير بنفس المهام ، فاعتذرَ الوزيرُ ، فأصحاب المبادئ ، وحاضـنـوا الـمعـرفة لا ينافقون ، كمن يكون نافخَ كيرٍ في حياته اليومية صباحاً ، وبائعَ مسك في زواريب الليل

اعتـذر الـوزيـر ، لم يقتله أو يكشه أحد على رقعة الشطرنج ،طلب من جلالة الملك بكل الودِّ و الاحترام لجلالته أن يغيِّرَ من طبيعة عمله ، و يتركه يشرفُ و يديرُ أمورَ الزراعة و التجارة ، وكان له ما كان..ـ
ـ أرادَ الملكُ الجديد بعـد حيـن ؛ إجـراء تقـييـم للمملكة و شؤونها العامة ،فأُحضِرَ له رجلٌ حكيمٌ ، يُعرف عـنـه بمهارة أن يجعل الفكرةَ والحكمةَ و المعرفة ناطقةً لا صامتة.. أُعطي أسبوعاً واحداً لإتمام المهمة، راحَ الحكيمُ يتجوَّلُ ،ويسجل ما يشاهدُ في شوارع المملكة ، وأسواقها وحوانيتها ، ويسمعُ أحاديثَ الناس
وفـي أحـد الأيـام و بعـد العصـر كـان الملك يقوم بجولةٍ على قطاع الزراعة ، وكلما أثنى المشرف على إحدى الأسر في الإنتاج ، أمر الملك بإعطائهم ثلاث دجاجات أو فخذ خاروف أو عشرين كيلو غرام من الحمص أو العدس أو سلّة من الفواكه ، مكافأةً لهم.. ـ
سجّلَ الحكيمُ ما سمع ،وفي اليوم التالي كان الملك يمتطي صهوةَ حصانِه ، ويتبختر في شوارع المملكة فـانتبـهَ الحكيـمُ إلـى أن الحصانَ كان يحكُّ مؤخرته بحائطٍ ، ويبدو أنّه قد قرصته حشرة ، فسجل الحكيم الـمـلاحـظـة ، وفـي الـيـوم الثـالث لاحـظ أن زوجـة المـلـك تسـيـر ومـن حـولـهـا نسـاء مـن الحـواشـي المرافقات ،وقد مرَّ بالقرب منها رجلٌ فقيرٌ ، ويبدو أنه اقترب من الخطوط الحمراء الغير مسموحة في الشارع ، فرفعتْ صوتها ووبّختْهُ ، والحكيم يراقب و يسجِّل.. ماذا عسانا أن نعرف لاحقاً ؟
وفـي اليـوم التـالي، كان لقاء المكاشفة و المصارحة ، فقال الحكيم : ” يا جلالة الملك هل تريد الحقيقة القـائمـة علـى أسـس و قواعد ،أم تقييماً منفلتاً من المنطق والمعرفة ؟” ـ أجابه الملك : “ قل الحقيقة ولــو كانت مُرّةً ، لك الأمان يامن يَرى مالا يُرى !” ـ

ـ قـال الحكيـمُ : ” أيـهـا المـلـك أنـت تلبسُ التاجَ و تجلسُ على العرش ، ولكن معذرة يا جلالة الملك ، لست ابنَ الملك الذي رحل ” ارتبكَ الملـك ، هـوى العـرش فـي مخيـلـتـه ، تمـاسـكَ قليـلاً ، قال له : ” تابعْ و لك الأمانُ ” ـ ” أيها الملك ، حصانُك الذي تمتطي صهوتَه يومياً ليس أصيلاً إنّه ( هجين ) أمُّه فرسٌ أصيلٌ و أباه ليس كذلك “. ازدادَ الملك توتّراً ، وراحَ العرقُ يتصبّبُ على جبينه ، وظهـرت عليـه علاماتُ الاستغراب ، حبس أنفاسه .. تابعْ : “ يا حكيمُ ، وماذا لاحظتَ أيضاً ؟ ” ـ
ـ ” زوجتُك..! زوجتُك يا جلالة الملك تصرّفُها وسلوكها ليس له علاقة بسلوك الملكات ؛صاحبات الجلالة والفخامة ، أمّا الأمور الأخرى في المملكة ، فإنّها تسير بشكل جيد ومقبول ” ـ وشكر الوزير المسؤول على حسن التدبير والإدارة لشؤون الزراعة و التجارة ،صمتَ الملكُ ،ثم نطقَ قائلاً للحكيم : ” لن أدعَك تـخـرجُ مـن القصـر حتـى أتبيّـنَ بنفسـي مـن صـحة قراءتك ونبوءتك ، فإن كانت خاطئة سأقتلك ، وإلا سأجزيك العطاء ” ـ ابتسم الحكيم ، وصمت. ـ
سـأل المـلـك أمَّـه الحقـيقية عـن المـوضـوع ، أطـرقـتْ بالأرض ، هددها بقطع رأسها إن لم تبحْ بالسر ، تلعثمتْ ، ثم باحت به : ” بأنّ الطباخ المخنث هو والدك البيولوجي ، وبـمعـرفـة زوجـي المـلـك الراحل ليبقى الملكُ و العرشُ هنا ” ـ
أُحضِرَ له سائس الخيل ، سأله الملك : ” هل حقاً حصاني ليس أصيلاً ؟ ” وقد رأى سائس الخيل في وجه الملـك أن الـدم يكـاد يغلـي و يفـور ، أجـابـه السـائـسُ بـهـدوء و ثقة : ” نعم يا جلالة الملك ، عندما كنتَ مـراهـقـاً و قـلـتُ لك أن تأخذ حصاناً آخر أصيلاً ، أنتَ الذي رفضتَ ، لأنّك أحببتَ شكلَه فقط ، وقلتُ لك وقتها : ” شكلُه جـميـلٌ لكنَّـه ليس أصيلاً ” ، وأصررتَ على رأيك فأخذتَ بالشكل و ضحّيت بالأصالة ، ومن وقتها أصبحنا نقول الحصان رقم (1) حصان الملك و لم يكن فعلاً أصيلاً ” .ـ
ثمّ نادى زوجتَه و سألَها بنفس الطريقة ، وعرفَ أن أصولها و سلالتها لا تمتُّ إلى طبقة النبلاء بشيء ، وكانت الطامّة الكبرى ، وراح الخيـالُ يسبح في الفضاء البعيد ، الملك ابن حرامٍ ، حصانُه ليس أصيلاً ، وزوجته سوقيةُ السلوك ، ربحَ التاجَ و العرش و خسر الكرامة ، وبعد أن امتصَّ الطامّاتِ و الصدماتِ ، وتصوّرَ ما يلوحُ في الأيام والأشـهر القـادمـة طلبَ الملكُ الحكيمَ وقال له : ” إنَّك لحكيم حقاً ،وقد أوتيت مـن الله علماً و حكمة لا تملكه الملوك ، ولـكـن بـالله عـليـك قـل لـي تـأويـلَ الأمـور.. “ ابتـسـمَ الحكيـمُ وقـال : ” عـندما رأيتُك تُجزي و تكافئ باللحوم و العدس و البقول و الخضر والفاكهة ، فقلت هذا ليس من طبع الملوك ،فالملوك يا صاحبَ الجلالة تجزي و تكافئ بالمال والذهب..! والحصان الأصيل لا يحكُّ مـؤخرتَـه بجـدار ولا بشـيء مهمـا تعـرَّض لأي ألـم ، بـل تـفعـل ذلـك البغـال و الكُـدش و الحمير ، وأمّا زوجتك ، فالملكة لا ترفع صوتها على أحد في الشارع ولا في البلاط ، تعطي الأوامر وحتى بدون كلام ، ولمّا فعلت ما فعلتْ عرفتُ أنّها من سلالةٍ غير نبيلة اجتماعياً…” ـ أجابه الملـك : “إنـي لتأويلك شاكرٌ ، ولمعرفتك حامدٌ و مقدرٌ “ ـ
ودَّع الملكُ الحكيمَ بألمٍ وحسرةٍ ، ودخل إلى غرفته الخاصة و انزوى


د . نور الدين منى

Written by فضاءات

What do you think?

Comments

Leave a Reply

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Loading…

0

كلاوس

“ترجمان الأشواق