in , ,

عصيّ الدمع حين يبدع حاتم علي

ليمون يا ليمون .. إنت أحلى من الليمون
إن كــــنّك تهوى بـدالي .. عالي ولّا دون
خصمك النبي .. جوّات الحرم مكنون
هكذا نتنقل طوال ثلاثين حلقة على وقع حكايات [ آنا زهرية ] الشائقة التي تلقي الضوء على تراث بلاد الشام الجميـل الـذي تتـوارثه النسـاء جيلاً بعد جيل ، فاسم المسلسل مستقى من رائعة أبي فراس ” أراك عصي الدمع شيمتك الصبر “.. حتى قولـه : ” ولكـن مثلـي لا يـذاع له سرُّ “. إنّه إذاً عن صبر النساء على مُرِّ الحياة، وعلى قـهـر الـرجـال والنسـاء معـاً ؛ عـن الألـم الـذي يصـاحـب حكـايـات الشـرق، ألم تمَّ الاعتياد عليه حتى لم يعد أحد يلحظه .
ـ {عصيَّ الدمع} أحد أجمل أعمـال [ دلع الـرحبـي و حـاتـم علـي ] حيـث يتجلى أكبر إبداع للثنائي حين يتشاركان ، فالكاتبة امرأة مدركة لهموم النساء ، وهو رجل في مجتمـع ذكـوري حيـث تكـتـسـب أعمـال الـرجال أهمية أعلى، فبالطبع حين يُطرَحُ عملٌ عن قضايا المرأة من قِبل رجلٍ سيتم الاستماع إليه بجديَّة أكبر، فكيف بمخرج ومبدع يغزل النصوص أعمالاً تفرض نفسها بثبات مهما أعيدت أو تكررت.
ـ الـعـمـل يعالج قـضية المرأة في الشرق ،( سوريا نموذجاً ويركز على المسألة القانونية لكونه يحكي عن مجموعة من المحـاميـن بمختـلـف حـالاتهـم ومواقعهم ، تبدأ من حكاية المحامية رياض التي تتعرف إلى مهندس له ذات اسمها حتى زواجها منه وما تلاه .
يسـعـد صـباحك يا كتلة فرنجيّة .. يا مصحف مطوي و يا خلقة إلهيّة
لو قدمولي بـدالك من الألف للميّة .. ما بهوى بدالك ولا لي بحدا نيّة
ـ المميز في العمل أنّه يتحايل على جفاف النصوص القانونية بإضافات صغيرة غاية في اللطف والغنى ، فكل حلقة تبدأ بحكايا تسمعها من نوافذ المنـازل ، في الصـباح الذي يطل من شرفات دمشق وما تخفيه خلفها من صراعات ، ضحكات ، توتر ،وآلام .. وقليل جداً من الفرح
في المسلس تجد نماذج مختلفة : نساء رائعات كدور [ آنا زهرية ] الحكيمة المتوازنة الذي تمثله القديرة منى واصف، [ يارا صبري ] بدور قاضية متطرفة ضد الـرجـال حـد الاسـترجال، [ سلاف فواخرجي ] الواثقة التي تعرف ماذا تفعل وتقول وكيف تتخذ قراراتها بحكمة والمـدعـومـة بحـبِّ جـدتـهـا ومـلـكـيـة ورثتها عن أمها ما تمنحها الثبات والقرارات المتوازنة ، الممثلة القـديـرة [ ثـنـاء دبسـي ] صاحبة حلقات الوعظ التي ترسخ عبودية النساء للمجتمع دون استناد ديني حقيقي ، [ شكران مرتـجى ] ربّة المنزل التي تشغل جلَّ وقتها في إرضاء زوجها وأبنائها دون أن يشفع لها ذلك حين تمرض وتضعف
ونماذج أخرى عديدة من النساء :القوية ،الفاجرة ،المسكينة ،المظلومة ،والمتحكـمـة ، الثرثارة ،والمكتفية بظل المطبخ ،الواثقة ،المتصنعة ،المهزومة ،وأخيراً الضحية؛ ضحية قهر الرجال أو النساء على حد سواء

الفنان جمال سليمان بدور المهندس رياض

يأخذ النجم [ جمال سليمان ] دور الجنتلمان متصنع الثقافة الذي يظهر نفسه كداعم مثقف ومراعي ولكنه على أرض الواقع يتصرف مثل أي شرقي تقليدي
ـ وهنـاك أيضـاً [ جـلال شـمـوط ] المحـبّ الطيب الداعم ،الرجولة الحقيقية الواثقة ، يقدّم الحبَّ بلا شروط ويبقى على عزّة نفسه حتى عندما يخيِّب ذلك الحب أمله
ونماذج أخرى لرجال شرقيين نمـوذجييـن بـدءاً مـن [ زهيـر عبـد الكريم ] الذي لا يرحم ولا يحترم ، ولا يضيره أن يخلط في كلامه بين المرأة والمرقة ،مروراً بالـزوج اللامبـالـي الـذي يسـمح لأخـواته بتزويجه وتطليقه على مزاجهن الغريب ، والأخ الكبير [ عدنان أبو الشامات ] الذي يسطو على حصـة أخـواته من الإرث ، وصولاً إلى حاتم علي بدور (سميح ) المحامي الذي يقدر الأنثى كما تسـتـحـق ويـمضـي بقـضـية المـرأة بطريقة قانونية ومهنية مدروسة مع إظهار التعقيدات التي يقدمها واقـع الحـال والـطـريـق الطـويـل الملـيء بالعثـرات ، وفـي المسـلسـل شـخصيتين طريفتين : الأولى امرأة كسولة تبحث عن زوج بالمراسلة وبعـد أن تتـزوج تقضـي وقتها متتبعة زوجهـا وهـي تتمتـم ملقيـةً عليه التعاويذ التي تبقيه أسير إرادتها ، لا تريد سوى النوم والتخلص من كل ما يزعجها حتى لو كانت ابنة حماها ” الكرنيبة ” كما تفضل أن تدعوها.
والثانية شخصية [خالد تاجا ] الذي يدور يومياً في الباحة الرئيسية لقصر العدل و يسأل كل من يصادفه عن اسم المكان ، ثم يقهقـه ضـاحكـاً حيـن يؤكـدون أنّه قصر (العدل) تلك الضحكة اليائسة ، في إشارة قويّة إلى حالة الفساد الذي كان يعم السلك القضائي في سورية قبل 2011.
لا يغفل المسلسل عن عوالم الأنوثة ، فصـنـع الطعـام يغـدو طقـس لـه أصـولـه :” الطـبخ نفس ، لهيك لازم يكون كل شي بالمطبخ متقّن وراكز ، لإن الطبخ بدو هداوة ، وبدو رواق مشان هيـك قـالـوا كثـرة الأيادي حرقت الطبخة “ـ

كل حلقة من المسلسل مطعمة بلوحتين : ـ الأولى قصيدة للملكة أم كلثوم ، تروي عنها [ آنا زهرية ] كل التفاصيل عن الشاعر والملحن وما جرى حينها . ـ والثانية عن الأطباق الدمشقية الشعبية، ففي وصف الكبة المشوية السورية الشهيرة تقول: “مرقرق حفاته مسقسق جواته، قللا طيب يا مرة، قالت له كل يوم هاتو“ـ
بالإضافة إلى الحكمة العميقة: “ البيت وسكانه والواعة ولبّاسا ،لإن الرَّك ع الحشوة موع المظهر” ( قيمة البـيـت تـأتـي مـن سـكانـه وكـذلـك الثيـاب لأن الاســتـعمـال يتـطـلـب معـدن الأشـيـاء ولـيـس مـظـهـرها )
تظهر الفكرة الأساسية على لسان حاتم علي في ختام أحد المؤتمرات الخاصة بقضية المرأة وهي أنّ تحرير المرأة أمر يخص المجتمع بأكمله رجالاً ونساء وأنَّه ضرورة لا بدَّ منها لتقوم قائمة دول العرب المتعثرة .
نستطيع أن نقول أنَّ هذا العمل ينقل أيضاً نظرة عميقة لدمشق قبل 2011 ، سترى تلك الصورة الواقعية المليئة بالجمال رغم عفويتها وبساطتها غير مشذبة ولا مبالغ فيها بل هي حكايات منتقاة بعناية من التراث والحاضر تسردها [ منى واصف ] بصوتها المليء بالحب والعطاء فتنساب أشعارها كساقية رائقة لدرجة تنسـيك سـلسـلة الأوضـاع التي تبعث على الأسى والتي لا يغفل هذا العمل عنها ، وهكذا ترى كمية الحب المخزون في كل التفـاصيـل فحيـن تتحـدث البطلة عمَّـا تحب يغدو كلامها شعراً يطرب القلب والخاطر :ـ
لقـوم بـالليـل وأشـوف القـمـر شـارق
وأشوف حبي على شط البحور مارق
رفعت راسي لربـي وقـلـت يــا خـالـق
تجمعني ب حبـيبـي من قبـل مـا فارق

آمال عبد الصمد

Written by فضاءات

What do you think?

Comments

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Loading…

0

التاريخ والدراما / 6 / الملك الشاعر

دهشة البدايات … رفعة النهايات